فصل: باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَا قِيلَ فِى الرِّمَاحِ

وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ رَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ومعنى هذا كالأبواب التى قبله أن الرمح كان من آلات النبى للحرب ومن آلات أصحابه، وأنه من مهم السلاح وشريف القدر؛ لقول الرسول‏:‏ ‏(‏جعل رزقى تحت ظل رمحي‏)‏ وهذه إشارة منه لتفضيله والحض على اتخاذه والاقتداء به فى ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الرسول خص بإحلال الغنائم وأن رزقه منها بخلاف ما كانت الأنبياء قبله عليه، وخص بالنصر على من خالفه، ونصر بالرعب وجعلت كلمة الله هى العليا، ومن اتبعها هم الأعلون، وإنما ثقف المخالفون لأمره إلا بحبل من الله وهو العهد، باءوا بغضب من الله وضربت عليهم الذلة والصغار وهى الجزية، والله الموفق‏.‏

باب مَا قِيلَ فِى دِرْعِ الرسول صلى الله عليه وسلم وَالْقَمِيصِ فِى الْحَرْب

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى قُبَّةٍ يوم بدر‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ‏)‏، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ فِى الدِّرْعِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ الآية ‏[‏القمر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، تُوُفِّىَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِىٍّ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ‏)‏، وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه اتخاذ الدرع والقتال فيه‏.‏

وفيه دليل على أن نفوس البشر لا يرتفع عنها الخوف والإشفاق جملة واحدة؛ لأن الرسول قد كان وعده الله بالنصر وهو الوعد الذى نشده، وكذلك قال الله عن موسى حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم فأخبر بعد أن أعلمه أنه ناصره وأنه معهما يسمع ويرى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأوجس فى نفسه خيفة موسى ‏(‏وإنما هى طوارق من الشياطين يخوف بها النفوس ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك‏)‏‏:‏ اللهم إنى أسألك إنجاز وعدك وإتمامه بإظهار دينك وإعلاء كلمة الإسلام الذى رضيت بظهوره على جميع الأديان، وشئت أن يعبدك أهله، ولم تشأ ألا تعبد، فتمم ما شئت كونه؛ فإن الأمور كلها بيدك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏)‏ فيه تأنيس من استبطأ كريم ما وعد الله به من النصر بالبشرى لهم بهزم حزب الشيطان وتذكيرهم بما يثبتهم به من كتابه‏.‏

وفيه فضل أبى بكر الصديق ويقينه بما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك سماه الصديق، وقد تقدم القول فى حديث عائشة فى كتاب الزكاة‏.‏

باب الْحَرِيرِ فِى الْحَرْبِ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِى قَمِيصٍ حَرِيرٍ لحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا‏.‏

وقال مرة‏:‏ لقَمْلَ، فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِى الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِى غَزَاةٍ‏.‏

اختلف السلف فى لباس الحرير فى الحرب، فأجازته طائفة وكرهته طائفة، فممن كرهه عمر بن الخطاب، وروى مثله عن ابن محيريز وعكرمة وابن سرين وقالوا‏:‏ كراهيته فيى الحرب أشد لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك، وأبى حنيفة، وقال مالك‏:‏ ما علمت أحدًا يقتدى به لبسه فى الغزو‏.‏

وممن أجازه فى الحرب‏:‏ روى معمر، عن ثابت قال‏:‏ رأيت أنس بن مالك يلبس الديباج فى فزعة فزعها الناس‏.‏

وقال أبو فرقد‏:‏ رأيت على تجافيف أبى موسى الديباج والحرير‏.‏

وقال عطاء‏:‏ الديباج فى الحرب سلاح‏.‏

وأجازه عروة والحسن البصرى، وهو قول أبى يوسف والشافعي‏.‏

وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه استحب الحرير فى الجهاد والصلاة به حينئذ للترهيب على العدو والمباهاة، وفى مختصر ابن شعبان، عن ابن الماجشون، عن مالك مثل ما ذكره ابن حبيب‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ أما الذين كرهوا لباسه فى الحرب وغيره فإنهم جعلوا النهى عنه عامًا فى كل حال‏.‏

والذين رخصوا فى لباسه فى الحرب احتجوا بترخيصه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير فى لباسه للحكة والقمل، فبان بذلك أن من قصد بلبسه إلى دفع ما هو أعظم عليه من أذى الحكة، كأسلحة العدو المريد نفس لابسه بنبلٍٍ ونشاب، ولبسه، فله من ذلك نظير الذى كان لعبد الرحمن والزبير لسبب الحكة، أيضًا ما حدثنا به أبو كريب، حدثنا أبو خالد وعبدة ابن سليمان، عن حجاج، عن أبى عثمان ختن عطاء عن أسماء، قال‏:‏ ‏(‏أخرجت إلينا جبة مزررة بالديباج، وقالت‏:‏ كان رسول الله يلبسها فى الحرب‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ ولباسه فى الحرب من باب الإرهاب على العدو، وكذلك ما رخص فيه من تحلية السيوف وكل ما استعمل فى الحرب هو من هذا الباب‏.‏

ويدل على أن أفضل ما استعمل فى قتل العدو ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فى قذف الرعب والخشية فى قلوبهم، وكذلك رخص فى الاختيال فى الحرب، وقال صلى الله عليه وسلم لأبى دجانة وهو يتبختر فى مشيته‏:‏ ‏(‏إنها لمشية يبغضها الله إلا فى هذا الموضع‏)‏ لما فى ذلك من الإرهاب على أعداء الله، وقام الدليل من هذا على أن حسن الرأى وجودة التدبير من الرجل الواحد يشير به فى قتال العدو وقد يكون ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ من الشجاعة ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ العساكر العظام‏.‏

باب مَا قيل فِى السِّكِّينِ

فيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، رَأَيْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، يَأْكُلُ مِنْ كَتِفٍ يَحْتَزُّ مِنْهَا، ثُمَّ دُعِىَ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وألقى السِّكَينِ‏.‏

ليس فيه أكثر من استعمال السكين وأنه معروف عندهم اتخاذه واستعماله‏.‏

باب مَا قِيلَ فِى قِتَالِ الرُّومِ

فيه‏:‏ عُمَيْرَ بْنَ الأسْوَدِ الْعَنْسِىَّ عن أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا‏)‏، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا فِيهِمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَنْتِ فِيهِمْ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ أَنَا فِيهِمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ من هذا الحديث فضل لمعاوية؛ لأنه أول من غزا الروم وابنه يزيد غزا مدينة قيصر‏.‏

وعمير بن الأسود العنسى منسوب إلى قبيلة من العرب يقال لهم‏:‏ بنو عنس بالكوفة، والعيش بالبصرة، وفى أخرى‏:‏ ولا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏‏.‏

باب قِتَالِ الْيَهُودِ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِىَء أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِىٌّ وَرَائِى، فَاقْتُلْهُ‏)‏‏.‏

وقا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث دليل على ظهور الآيات بتكلم الجماد وما شاكله عند نزول عيسى ابن مريم الذى يستأصل الدجال واليهود معه‏.‏

وفيه دليل على بقاء دين محمد ودعوته بعد نزول عيسى ابن مريم لقوله‏:‏ ‏(‏تقاتلوا‏)‏ ولا يكونوا مخاطبين بالقتال إلا وهم على دينهم لجواز علم النبى صلى الله عليه وسلم أن الذين يقاتلون الدجال غير من يخاطب بالحضرة، لكن خاطب من بالحضرة لمجيء من بعدهم على مذهبهم، وهذا فى كتاب الله كثير خاطب من الحضرة ما يلزم الغائبين الذين لم يخلقوا بعد‏.‏

وفيه جواز مخاطبة من لا يسمع الخطاب، ومخاطبة من قد يجوز منه الاستماع يومًا ما‏.‏

باب قِتَالِ التُّرْكِ

فيه‏:‏ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ نِعَالَ الشَّعَرِ، وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُون قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأعْيُنِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الأنُوفِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه علامة للنبوة وأنه سيبلغ ملك أمته غاية المشارق التى فيها هؤلاء القوم على ما ذكر فى غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة، وسائر ما وصفهم به كما وصفهم‏.‏

وفيه التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شبه منه من جهة ما، وإن خالف فى غير ذلك‏.‏

قال صاحب الأفعال‏:‏ المجان جمع مجن وهى الترسة، ويقال‏:‏ أطرقت النعل والترس‏:‏ أطبقتها‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الذلف‏:‏ غلظ واستواء فى طرف الأنف‏.‏

باب‏:‏ من صف أصحابه عند الهزيمة ونزول عن دابته واستنصر

فيه‏:‏ الْبَرَاءَ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَكُنْتُمْ فَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا وَلَّى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحَابِهِ وَخِفَّاؤُهُمْ حُسَّرًا لَيْسَ بِسِلاحٍ، فَأَتَوْا قَوْمًا رُمَاةً جَمْعَ هَوَازِنَ وَبَنِى نَصْرٍ، مَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ رَشْقًا، مَا يَكَادُو يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَالِكَ إِلَى الرسول صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ وَاسْتَنْصَرَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَنَا النّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ ثُمَّ صَفَّ أَصْحَابَهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه الترجمة، وتثبيت من بقى مع الإمام، ونزول الرسول عن بغلته إنما كان لتثبيت الرجالة الباقين معه، وليتأسوا به فى استواء الحال، فكذلك يجب على كل إمام إذا ولى أصحابه وبقى فى قلة منهم إن أخذ على نفسه بالشدة أن يفعل ما فعل صلى الله عليه وسلم من النزول، وإن لم يكن له نية يأخذ بالشدة، فليكن انهزامه يتحيز مع فئة من قومه إلى فئة أخرى يروم تثبيتهم، وهذا الحديث يبين أن المنهزمين يوم حنين لم يكونوا جميع الصحابة وأن بعضهم بقى مع النبى صلى الله عليه وسلم غير منهزمين‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه البيان عما خص الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والنجدة؛ وذلك أن أصحابه انفلوا فانهزموا من عدوهم حتى ولوا عنهم مدبرين، كما وصفهم فى كتابه‏:‏ ‏(‏ثم وليتم مدبرين ‏(‏فكان أصحابه وهم زهاء عشرة آلاف أو أكثر مدبرين انهزامًا من المشركين وهو فى نفر من أهله قليلين متقدم تلقاء العدو وقتالهم جاد فى النظر نحوهم، غير مستأخر، غير مدبر، والعدو من العدد فى مثل السيل والليل‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد انهزم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من انهزم عنه، والفرار من الزحف كبيرة، فكيف فعل ذلك أصحابه‏؟‏ قال الطبرى‏:‏ والجواب أن الفرار المكروه الذى وعد الله عليه الانتقام‏:‏ الانهزام على نية ترك العود لقتالهم إذا وجدوا قوة‏.‏

وأما الاستطراد للكرة أو التحيز إلى فئة عند قهر العدو المسلمين لمكيدة أو كثرة عدد فليس ذلك من الفرار الذى توعد الله المؤمنين عليه، ولو كان ذلك فرارًا لكان القوم يوم حنين قد استحقوا من الله الوعيد وذلك أنه تعالى أخبر عنهم أنهم ولوا مدبرين بقوله‏:‏ ‏(‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ‏(‏فولوا عن رسول الله وهم أكثر ما كانوا عددًا وأتم سلاحًا، لم يوجب لهم غضبه بل قال‏:‏ ‏(‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها ‏(‏ولو كان إدبارهم يومئذ على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة؛ لكانوا قد استحقوا وعيده تعالى‏.‏

وبمثل ما قلناه قال السلف، روى داود، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يولهم يومئذ دبره ‏(‏قال‏:‏ كان ذلك يوم بدر ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم على وجه الأرض غيرهم، وقال الضحاك‏:‏ إنما كان الفرار يوم بدر ولم يكن لهم ملجأ يلجئون إليه، وأما اليوم فليس فرار‏.‏

وقال ابن أبى نجيح، عن مجاهد، قال عمر بالمدينة‏:‏ وأنا فئة كل مسلم‏.‏

وسئل الحسن البصرى عن الفرار من الزحف فقال‏:‏ والله لو أن أهل سمرقند انحازوا إلينا لكنا فئتهم‏.‏

باب‏:‏ الدعاء على المشركين بالهزيمة

فيه‏:‏ عَلِىّ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَلأ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فِى الْقُنُوتِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى‏:‏ دَعَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأحْزَابِ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن مسعود، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَلِّى فِى ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فجاء أَبُو جَهْلٍ وَنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، بسلا جَزُورٌ فَطَرَحُوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ‏)‏، ثلاثًا، وسمى اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأبِى جَهْلِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا‏:‏ السَّامُ عَلَيْكَ، فَلَعَنْتُهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا لَكِ‏)‏‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قُلْتُ‏:‏ وَعَلَيْكُمْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قد تقدم القول فى الصلاة الوسطى أنها الصبح على الحقيقة، وأنها العصر بالتشبيه بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏شغلونا‏)‏ فهذا شغل لا يمكن ترك القتال له على حسب الاستطاعة له من الإيماء والإقبال والإدبار والمطاعنة والمسابقة لكن لهذا وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن صلاة الخوف لم تكن نزلت بعد، وفى الآية بها إباحة الصلاة على حسب القدرة والإمكان، وفى هذا الوقت لم يكن مباح لهم الإتيان بها إلا على أكمل أوصافها؛ فلذلك شغلوا عنها بالقتال، وهذا الشغل كان شديدًا عليهم حتى لا يمكن أحد منهم أن يشتغل بغير المدافعة والمقاتلة‏.‏

والمعنى الآخر‏:‏ أن يكونوا على غير وضوء؛ فلذلك لم يمكنهم ترك القتال لطلب الماء وتناول الوضوء؛ لأن الله لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وأما دعاؤه صلى الله عليه وسلم على قوم ودعاؤه لآخرين بالتوبة؛ فإنما كان على حسب ما كانت ذنوبهم فى نفسه صلى الله عليه وسلم، فكان يدعو على من اشتد أذاه للمسلمين وكان يدعو لمن يرجى نزوعه ورجوعه إليهم كما دعا لدوس حين قيل له‏:‏ إن دوسًا قد عصت وأبت ولم تكن لهم نكاية ولا أذى، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم اهد دوسًا وائت بهم‏)‏ وأما هؤلاء فدعا عليهم لقتلهم المسلمين، فأجيبت دعوته فيهم، وقد تقدم هذا المعنى فى أول كتاب الاستسقاء، وسيأتى أيضًا فى كتاب الدعاء باب‏:‏ ‏(‏الدعاء على المشركين‏)‏ مستقصى فيه القول إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب‏؟‏

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأرِيسِيِّينَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، وأما تعليمهم الكتاب فاستدل الكوفيون على جوازه بكتابة النبى إليهم آية من كتاب الله بالعربية، فعلمهم كيف حروف العربية وكيف تأليفها وكيف إيصال ما اتصال من الحروف، وانقطاع ما انقطع منها قالوا‏:‏ فهذا تعليم لهم؛ لأنهم لم يقرءوا حتى ترجم لهم، وفى الترجمة تعريف ما يوافق من حروفها حروفهم وما يعبر عنه، ألا ترى أن فى أسماء الطير فى نظير أبيات الشعر تعليمًا للكتاب فضلا عن الحروف التى هى بنغمتها تدل على أمثالها، وأسماء الطير لا يفهم منها نغمة وينفك منها الكلام، قاله المهلب‏.‏

وإلى هذا المعنى ذهب أبو حنيفة فقال‏:‏ لا بأس بتعليم الحربى والذمى القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا فى الإسلام، وهو أحد قولى الشافعي‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يعلمون الكتاب ولا القرآن، وهو قول الشافعى الآخر، واحتج الطحاوى لأصحابه بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل بآية من القرآن وبما رواه حماده بن سلمة، عن حبيب المعلم قال‏:‏ سألت الحسن‏:‏ أعلم أهل الذمة القرآن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أليس يقرءون التوراة والإنجيل وهو كتاب الله‏؟‏ واحتج الطحاوى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقد روى أسامة بن زيد ‏(‏أن رسول الله مر على مجلس فيه عبد الله بن أبى قبل أن يسلم وفى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، فقرأ عليهم القرآن‏)‏‏.‏

وحجة مالك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس ‏(‏وقد نهى الرسول أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وكره مالك أن يشترى من أهل الكفر فيعطوا دراهم فيها اسم الله، وكره إذا كان صيرفى يهودى أو نصرانى أن يصرف منهم‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ يكره أن يعطى الكافر الدراهم فيها القرآن؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة فهو كالجنب يمس المصحف فيكره أن يعطاه، والدراهم على عهد الرسول لم يكن عليها قرآن وإنما ضربت فى أيام عبد الملك‏.‏

وقال غيره‏:‏ وفى كتاب الرسول آية من القرآن؛ ففيه جواز مباشرة الكفار صحائف القرآن إذا احتيج إلى ذلك‏.‏

باب‏:‏ الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِىُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا‏:‏ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ‏:‏ هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ‏)‏‏.‏

كان الرسول يحب دخول الناس فى الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع فى إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن كان يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته يدعو عليه، كما دعا عليهم بسنين كسنى يوسف، ودعا على صناديد قريش، لكثرة أذاهم وعداوتهم، فأجيبت دعوته فيهم، فقتلوا ببدر، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى‏.‏

باب‏:‏ دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب الرسول إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال

فيه‏:‏ أَنَس لَمَّا أَرَادَ الرسول صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ، قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِى يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أن يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى خَرَّقَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمُ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه ما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، كتب إليه يدعوه بدعاية الإسلام‏:‏ ‏(‏أسلم تسلم‏)‏، فهذا الذى يقاتلون عليه، والدعوة لازمة إذا لم تبلغهم، وإذا بلغتهم فلا يلزم، فإن شاء أن يكرر ذلك عليهم، وإن شاء أن يطلب غرتهم فعل، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا؛ لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب إليهم غيرهم وأن يكون مباحًا لسواهم فكانوا يأنفون من إهماله، وقد قيل فى تأويل قوله‏:‏ ‏(‏كتاب كريم ‏(‏أنه مختوم، فأخذ صلى الله عليه وسلم بأرفع الأحوال التى بلغته عنهم، واتخذ خاتما ونقش فيه‏:‏ محمد رسول الله، وعهد ألا ينقش أحد مثله، فصارت خواتيم الأئمة والحكام سنة لا يفتات عليهم فيها لا يتسور فى اصطناع مثلها، وتخريق الكتاب من التهاون بأمر النبوة والاستهزاء بها؛ فلذلك دعا عليهم بالتمزيق فأجيب، والاستهزاء من الكبائر العظيمة إذا كان فى الدين، وهو من باب الكفر، ويقتل المستهزىء بالدين؛ لأن الله أخبر عن الاستهزاء أنه كفر فقال‏:‏ ‏(‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏‏.‏

باب دُعَاءِ الرسول صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إِلَى الإسْلامِ وَالنُّبُوَّةِ وَألاَّ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ الآيَةِ‏.‏

فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسْلامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِىِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ، فقرئ، فَإِذَا فيه‏:‏ ‏(‏بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأرِيسِيِّينَ وَ‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏الحديث‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ‏:‏ ‏(‏لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ‏)‏، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ عَلِىٌّ‏)‏‏؟‏ قِيلَ‏:‏ يَشْتَكِى عَيْنَيْهِ، فَأَمَرَ، فَدُعِىَ لَهُ، فَبَصَقَ فِى عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ، ‏[‏حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَىْءٌ‏]‏، فَقَالَ‏:‏ نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأنْ يُهْدَى اللَّه بِكَ رَجُلاً وَاحِدً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ، فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فقالوا‏:‏ محمد، والله‏:‏ مُحَمَّدٌ، وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ، فَقَالَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ‏)‏ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 177‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ ذلك، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّى مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ‏)‏‏.‏

فى هذا الباب الدعاء إلى الإسلام بالمكاتبة وبعثة الرسول، واستحب العلماء أن يدعى الكافر إلى الإسلام قبل القتال، فقال مالك‏:‏ أما من قربت داره منا فلا يدعون؛ لعلمهم بالدعوة ولتأمين غرتهم، ومن بعدت داره وخيف ألا تبلغه فالدعوة أقطع للشك‏.‏

وذكر ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جعونة وأمره على الدروب أن يدعوهم قبل أن يقاتلهم، وأباح أكثر أهل العلم قتالهم قبل أن يدعوا؛ لأنهم قد بلغهم الدعوة، هذا قول الحسن البصرى والنخعى وربيعة والليث وأبى حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق وأبى ثور، قال الثورى‏:‏ ويدعون أحسن‏.‏

واحتج الليث والشافعى بقتل ابن أبى الحقيق، وكعب بن الأشرف، وذكر ابن القصار عن أبى حنيفة‏:‏ إن بلغتهم الدعوة فحسن أن يدعوهم الإمام إلى الإسلام أو أداء الجزية قبل القتال‏.‏

قال‏:‏ ولا بأس أن يغيروا عليهم بغير دعوة‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا أعلم أحدًا من المشركين لم تبلغه الدعوة اليوم إلا أن يكون خلف الغور، والترك أمة لم تبلغهم، فلا يقاتلوا حتى يدعوا، ومن قتل منهم قبل ذلك فعلى قاتله الدية‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ لا شيء عليه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ قد لبث الرسول بعد النبوة سنين يدعو الناس إلى الإسلام، ويقيم عليهم الحجج والبراهين كما أمره الله بقوله‏:‏ ‏(‏ادفع بالتى هى أحسن ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم واصفح ‏(‏ثن أنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏(‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ‏(‏فأباح قتال من قاتله، ولم يبح قتال من لم يقاتله، وكان الإسلام ينتشر فى ذلك وتقوم الحجة به على من لم يكن علمه، ثم أنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏(‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ‏(‏قاتلوكم قبل ذلك أم لا، فكان فى ذلك زيادة فى انتشار الإسلام، ثم أنزل عليه‏:‏ ‏(‏وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ‏(‏فأمر بقتالهم كافة حتى يكون الدين كله لله‏.‏

وقد تقدمت معرفة الناس جميعًا بالإسلام وعلموا منابذته صلى الله عليه وسلم أهل الأديان، ولم يذكر فى شيء من الآى التى أمر فيها بالقتال دعاء من أمر بقتالهم؛ لأنهم قد علموا خلافهم له وما يدعوهم إليه، واحتج لهذا القول بحديث أنس أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أذانًا أمسك، وإن لم يسمع أذانًا أغار بعد ما أصبح، فهذا يدل أنه كان لا يدعو‏.‏

وذهب من استحب دعوتهم قبل القتال إلى حديث على أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم‏)‏‏.‏

وقال أهل القول الأول‏:‏ هذا يحتمل أن يكون فى أول الإسلام فى قوم لم تبلغهم الدعوة، ولم يدروا ما يدعون إليه فأمر بالدعاء ليكون ذلك تبليغًا لهم وإعلامًا، ثم أمر بالغارة على آخرين فلم يكن ذلك إلا لمعنى لم يحتاجوا معه إلى الدعاء؛ لأنهم قد علموا ما يدعون إليه وما لو أجابوا إليه لم يقاتلوا فلا معنى للدعاء، واحتجوا بحديث ابن عون قال‏:‏ كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فقال‏:‏ إنما كان ذلك فى أول الإسلام قد أغار رسول الله على بنى المصطلق وهم غارون فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث، حدثنى بذلك ابن عمر وكان فى الجيش، وبما رواه الزهرى، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏أغر على أبنى صباحًا وحرق‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث أنس الحكم بالدليل فى الأبشار والأموال، ألا ترى أنه حقن دماء من سمع من دارهم الأذان، واستدل بذلك على صدق دعواهم للإيمان‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فيه البيان عن حجة قول من أنكر على غزاة المسلمين بيات من لم يعرفوا حاله من أهل الحصون حتى يصبحوا فيتبين حالهم بالأذان ويعلموا هل بلغتهم الدعوة أم لا‏؟‏ فإن كانوا ممن بلغتهم ولم يعلموا أمسلمين هم أم أهل صلح أو حرب، فلا يغيروا حتى يصبحوا، فإن سمعوا أذانا من حصنهم كان من الحق عليهم الكف عنهم، وإن لم يسمعوا أذانا وكانوا أهل حرب أغاروا عليهم إن شاءوا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما أنت قائل فى حديث الصعب بن جثامة ‏(‏أن الرسول سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون ليلا ويصاب من نسائهم وذراريهم فقال‏:‏ هم منهم‏)‏‏.‏

وفى هذا إباحة البيات وحديث أنس بخلاف ذلك‏.‏

قيل‏:‏ كل ذلك صحيح ولا يفسد أحدهما معنى الآخر، وذلك أن حديث الصعب فيمن بلغته الدعوة ولا يشك فى حاله من أهل الحرب فإنه يجوز بياتهم، وإنما الذى ينتظر بهم الصباح لا ستبراء حالهم بالأذان أو غيره من شعار أهل الإسلام من التبس أمره ولم يعرف حاله فعلى هذا يحمل حديث أنس‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏(‏محمد والخميس‏)‏ يعنون‏:‏ الجيش، ومعنى الكلام‏:‏ هذا محمد وجيشه، أو قد جاء محمد وجيشه وإنما سمى‏:‏ خميسًا؛ لأنه يخمس ما يجد من شيء‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ اختلف أهل العلم فى تأويل حديث أبى هريرة فذهب قوم إلى أن من قال‏:‏ لا إله إلا الله فقد صار بها مسلمًا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم واحتجوا به، وخالفهم آخرون وقالوا‏:‏ لا حجة لكم فيه؛ لأن الرسول إنما كان يقاتل قومًا لا يوحدون الله فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه وخروجه منه ولم يعلم بذلك دخوله فى الإسلام أو فى أحد الملل التى توحد الله وتكفر بجحدها مرسله وغير ذلك من الوجوه التى يكفر بها مع توحيدهم الله كاليهود والنصارى الذين يوحدون الله ولا يقرون برسوله‏.‏

وفى اليهود من يقول‏:‏ إن محمدًا رسول الله إلى العرب خاصة، فكان حكم هؤلاء ألا يقاتلوا إذا وقعت هذه الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم بوجوب قتالهم وقد أمر صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب حين وجهه إلى خيبر وأهلها يهود بما رواه ابن وهب، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة ‏(‏أن رسول الله لما دفع الراية إلى على حين وجهه إلى خيبر قال‏:‏ امض ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك‏.‏

فقال على‏:‏ علام أقاتلهم‏؟‏ قال‏:‏ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏)‏‏.‏

ففى هذا الحديث أن النبى قد أباح له قتالهم وإن شهدوا ألا إله إلا الله حتى يشهدوا أن محمدًا رسول الله، وحتى يعلم على خروجهم من اليهود، كما أمر بقتال عبدة الأوثان حتى يعلم خروجهم مما قوتلوا عليه، وقد أتى قوم من اليهود إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأقروا بنبوته ولم يدخلوا فى الإسلام فلم يقاتلهم على إبائتهم الدخول فى الإسلام، إذ لم يكونوا بذلك الإقرار عنده مسلمين‏.‏

وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان بن عسال أن يهوديًا قال لصاحبه‏:‏ تعال حتى نسأل هذا النبي‏.‏

فقال له الآخر‏:‏ لا تقل له نبى؛ فإنه إن سمعها صارت له أربعة أعين، فأتاه فسأله عن هذه الآية‏:‏ ‏(‏ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ‏(‏فقال‏:‏ لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تسخبوا، تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا فى السبت؛ فقبلوا يده وقالوا‏:‏ نشهد أنك نبي‏.‏

قال‏:‏ فما يمنعكم أن تتبعونى‏؟‏ قالوا‏:‏ نخشى أن تقتلنا اليهود‏)‏ فأقروا بنبوته مع توحيدهم لله ولم يكونوا بذلك مسلمين‏.‏

فثبت أن الإسلام لا يكون إلا بالمعانى التى تدل على الدخول فى الإسلام وترك سائر الملل‏.‏

وروى ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس ‏(‏أن رسول الله قال‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإذا شهدوا بذلك وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا؛ حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏ قال‏:‏ وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فالحديث الأول الذى فيه توحيد الله خاصة هو المعنى الذى يكف به عن القتال حتى يعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره، حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد‏.‏

وقال الطبرى نحوًا من ذلك، وزاد فقال‏:‏ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا قالوا‏:‏ لا إله إلا الله؛ عصموا منى دماءهم وأموالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم قائله فى حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وهم الذين قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏(‏إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏}‏‏.‏

فدعاهم الرسول إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلا فى صبغة الإسلام، ثم قال‏:‏ آخرون من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد، فقال صلى الله عليه وسلم فى هؤلاء‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله ويشهدوا أن محمدًا رسول الله‏)‏ فإسلام هؤلاء‏:‏ الإقرار بما كانوا به جاحدين كما كان إسلام الآخرين إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له، وعلى هذا تحمل الأحاديث‏.‏

باب‏:‏ من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أراد الخروج يوم الخميس

فيه‏:‏ كَعْب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكنّ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فَغَزَاهَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِى يُرِيدُ‏.‏

وَقَلَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ فِى سَفَرٍ إِلا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وخَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه المكايدة فى الحرب، وطلب غرة العدو، وفيه جواز الكلام بغير نية للإمام وغيره إذا لم يضر بذلك أحدًا وكان فيه نفع للمسلمين خاصة وعامة فهو جائز وهو خارج من باب الكذب وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك لطول المدة؛ ليتأهبوا كما ذكر فى الحديث، ولأنه آمن ألا يسبقه إليها الخبر لبعد الشقة التى بينه وبينها وقفرها، وخروجه يوم الخميس لمعنى يجب أن يحمل عليه ويتبرك به؛ لأن لنا فى رسول الله أسوة حسنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ورى بغيرها‏)‏ قال أبو على الفسوى‏:‏ أصله من الورى كأنه قال‏:‏ لم يشعر به من ورى كأنه قال‏:‏ ساترت بكذا، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمز فيه، وتصغيره‏:‏ ورية وأصله‏:‏ وريية، ويسقط واحدة منهما كما قلت فى عطاء‏:‏ عطى، والأصل‏:‏ عطيى فتقول‏:‏ وريت عن كذا وكذا بغير همز، والمفازة‏:‏ المهلكة سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والسلامة كما قالوا للديغ‏:‏ سليم‏.‏

وذكر ابن الأنبارى عن ابن الأعرابى، المفازة مأخوذة من قولهم‏:‏ قد فوز الرجل‏:‏ إذا هلك‏.‏

باب‏:‏ الْخُرُوجِ بَعْدَ الظُهْرِ

فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا‏.‏

فى خروج النبى إلى سفر الحج دليل على أنه لا ينبغى أن يكره السفر وابتداء العمل بعد ذهاب صدر النهار وأوله؛ إذ الأوقات كلها لله، وأن ما روى عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لأمتى فى بكورها‏)‏‏.‏

لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه؛ لأن كل ما فعل النبى صلى الله عليه وسلم- ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة‏.‏

وإنما خص صلى الله عليه وسلم البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات والله أعلم- لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دعة، فخصه بالدعاء؛ لينال بركة دعوته جميع أمته‏.‏

والحديث بذلك ذكره ابن المنذر قال‏:‏ حدثنا سليمان بن شعيب قال‏:‏ حدثنى يحيى بن حسان، حدثنا هشيم، اخبرنا يعلى بن عطاء، عن عمارة، عن صخر الغامدى قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لأمتى فى بكورها‏)‏، قال‏:‏ وكان إذا بعث جيشًا أو سرية بعثهم أول النهار‏.‏

قال‏:‏ وكان صخر رجلا تاجرًا فكان إذا بعث غلمانه بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله‏.‏

باب الْخُرُوجِ آخِرَ الشَّهْرِ

وَقَالَ ابْن عَبَّاس‏:‏ انْطَلَقَ الرسول صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ‏.‏

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ، وَلا نُرَى إِلا الْحَجَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

خروجه صلى الله عليه وسلم آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية فى استقبالهم أوائل الشهور فى الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم بفضل الشهور من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم يبيح ذلك كله ولم يراع نقصان شهر ولا ابتداؤه، ولا محاق قمر ولا كماله، فخرج فى أسفاره على حسب ما تهيأ له ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا طيرتهم الكاذبة، ورد أمره إلى الله، ولم يشرك معه غيره فى فعله فأيده ونصره‏.‏

باب الْخُرُوجِ فِى رَمَضَان

-فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ‏.‏

الخروج فى رمضان جائز، وللمسافر أن يصوم أو يفطر إن اختار ذلك بخلاف ما روى عن على بن أبى طالب أنه قال‏:‏ ‏(‏من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم‏)‏؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه ‏(‏وبه قال أبو عبيد وأبو مجلز، وهذا القول مردود؛ لسفر الرسول فى رمضان وإفطاره فيه، وجماعة الفقهاء على خلاف قوله، وقد تقدم فى ‏(‏كتاب الصيام‏)‏‏.‏

باب‏:‏ التَّوْدِيعِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنَا الرسول صلى الله عليه وسلم فِى بَعْثٍ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنْ لَقِيتُمْ فُلانًا وَفُلانًا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ‏)‏، فَأَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لا يُعَذِّبُ بِهَا إِلا اللَّهُ، فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ الترجمة صحيحة وهو من الشأن المعلوم فى البعوث والأسفار البعيدة توديع المسافر و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ والأئمة ومن ترجى بركة دعوته واستصحاب فضله، وسيأتى الكلام على النهى عن التحريق بالنار فى باب ‏(‏لا يعذب بعذاب الله‏)‏ بعد هذا فى الجزء الذى يليه إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ السّمْعِ وَالطَّاعَةِ للإِمَام مَا لَمْ يَأْمُر بِمَعْصِيَةٍ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ احتج بهذا الحديث الخوارج ورأوا الخروج على أثمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذى عليه جمهور الأمة أنه لا يجب القيام عليهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد الإيمان وتركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطأ أمرهم وأمر الناس معهم؛ لأن فى ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتت الألفة‏.‏

وكذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق‏)‏‏.‏

وذكر على بن سعيد فى كتاب ‏(‏الطاعة والمعصية‏)‏ حديثًا أسنده إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم‏.‏

قيل‏:‏ يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك‏؟‏ قال‏:‏ لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا فمن ولى عليه وال فأتى شيئًا من المعاصى فليكره ما يأتى من معصية الله، ولا ينزعن يدًا عن طاعة‏)‏ يعنى‏:‏ لا يخرجن عليه‏.‏

وروى الآجرى، عن البغوى، عن القواريرى‏:‏ حدثنا حكيم بن حزام وكان من عباد الله الصالحين حدثنا عبد الملك بن عمير، عن الربيع بن عميلة، عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فله الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليه الوزر وعليكم الصبر‏)‏ وسيأتى شيء من هذا المعنى فى ‏(‏كتاب الأحكام‏)‏ وفى ‏(‏كتاب الفتن‏)‏ إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ يقاتل من وراء الإمام ويتقى به

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ‏)‏‏.‏

وبهذا الإسناد‏:‏ ‏(‏مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ يَعْصِ الأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِى، وَإِنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏من وراء الإمام‏)‏ يعنى‏:‏ من أمام الإمام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم ملك ‏(‏أى‏:‏ أمامهم، وقوله‏:‏ ‏(‏يتقى به‏)‏ أى‏:‏ يرجع إليه فى الرأى والفعل وغير ذلك مما لا يجب أن يقضى فيه إلا برأى الإمام وحكمه، ويتقى به الخطأ فى الدين والعمل من الشبهات وغيرها، والإمام جنة بين الناس بعضهم من بعض؛ لأن بالسطان نزع الله تعالى عن المستضعفين من الناس فهو ستر لهم، وحرز الأموال، وسائر حرمات المؤمنين أن تنتهك‏.‏

وقال غيره‏:‏ تأويل‏:‏ ‏(‏يقاتل من ورائه‏)‏ عند العلماء على الخصوص وهو فى الإمام العدل خاصة، فمن خرج عليه وجب على جميع المسلمين قتاله مع الإمام العدل؛ نصرة له إلا أن يرى الإمام أن يفعل ما فعل عثمان فطاعة الإمام واجبة، إلا أن الخارجين عليه إن قتلوه فى غير قتال اجتمعت فيه الفئتان للقتال أو قتلوا غيره؛ فإن القصاص يلزمهم بخلاف قتلهم لأحد فى حال الملاقاة للفئتين‏.‏

ولذلك استجاز المسلمون طلب دم عثمان؛ إذ لم يكن قتله عن ملاقاة، وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخرج عليه وأن يقيموا معه الحدود‏:‏ الصلوات، والحج، والجهاد، وتؤدى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأولا بمذهب خالف فيه السنة أو لجور أو لاختيار إمام غيره سمى فاسقًا ظالمًا غاصبًا فى خروجه لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون فى ذلك من سفك الدماء‏.‏

فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتلوا معه ولم يجز أن يسفكوا دماءهم فى نصره، وقد رأى كثير من الصحابة ترك القتال مع على، ومكانه من الدين والعلم ما لا يخفى على أحد له مسكة فهم، وسموه قتال فتنة، وادعاء كل واحد على صاحبه أنه الفئة الباغية، وهذا شأن العصبية عند أهل العلم‏.‏

ولم ير علىّ على من قعد عن القتال معه ذنبًا يوجب سخطه حاله، وإن كان قد دعا بعضهم إلى القتال، فأبوا أن يجيبوه فعذرهم، وكذلك يجب على الإمام الصالح الذى يأخذ الأمر عن شورى ألا يعتب من قعد عنه، وسنوضح كيف القتال فى الفتنة فى موضعه من ‏(‏كتاب الفتنة‏)‏ إن شاء الله‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الجنة‏:‏ الدرع، وسمى المجن‏:‏ مجنًا؛ لأنه يستتر به عند القتال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فإن عليه منه‏)‏ كذا روى الحديث، وقد جاء فى بعض طرقه ‏(‏فإن عليه منه وزرًا‏)‏ وهو مفهوم المعنى‏.‏

باب الْبَيْعَةِ فِى الْحَرْبِ أَلاّ يَفِرُّوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَلَى الْمَوْتِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ ابْنُ عُمَرَ، رَجَعْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِى بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ‏.‏

فَسَأَلْتُ نَافِعًا عَلَى أَىِّ شَىْءٍ بَايَعَهُمْ‏:‏ عَلَى الْمَوْتِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، بَلْ بَايَعَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ‏.‏

وفيه‏:‏ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، لَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى الْمَوْتِ، فَقَالَ‏:‏ لا أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ مَسْلَمَةَ، قَالَ‏:‏ بَايَعْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَّجَرَةِ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏يَا ابْنَ الأكْوَعِ، أَلا تُبَايِعُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ وَأَيْضًا، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ عَلَى الْمَوْتِ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَتِ الأنْصَارُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، تَقُولُ‏:‏

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا

فَأَجَابَهُمُ فَقَالَ‏:‏

اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَهْ *** فَأَكْرِمِ الأنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ

وفيه‏:‏ مُجَاشِعٍ بْن مسعود، أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخِى، فَقُلْتُ‏:‏ بَايِعْنَا عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَضَتِ الْهِجْرَةُ لأهْلِهَا‏)‏، فَقُلْتُ‏:‏ عَلامَ تُبَايِعُنَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏عَلَى الإسْلامِ وَالْجِهَادِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه الأحاديث مختلفة الألفاظ، منهم من يقول على الموت، وعلى ألا يفر، وعلى الصبر، والصبر يجمع المعانى كلها وهو أولى الألفاظ بالمعنى؛ لأن بيعة الإسلام هى على الجهاد وقتال المثلين، فإن كان المشركون أكثر من المثلين كان المسلم فى سعة من أن يفر، وفى سعة أن يأخذ بالشدة ويصبر، وهذا كله بعد أن نسخ قتال العشرة أمثال، وأما قبل نسخها فكان يلزم قتال العشرة أمثال وألا يفر إلا من أكثر منها‏.‏

وبيعة الشجرة إنما هى على الأخذ بالشدة وألا يفر أصلا ولا بد من الصبر إما إلى فتح وإما إلى موت، فمن قال‏:‏ بايعنا على الموت، أراد يفتح لنا، ومن قال‏:‏ لا نفر‏.‏

فهو نفس القصة التى وقعت عليها المبايعة، وهو معنى الصبر؛ وقول نافع‏:‏ على الصبر؛ كراهية لقول من قال بأحد الطريقين‏:‏ الموت أو الفتح، فجمع نافع المعنيين فى كلمة الصبر‏.‏

وقوله لسلمة بن الأكوع‏:‏ ‏(‏ألا تبايع‏)‏ أراد أن يؤكد بيعته؛ لشجاعة سلمة وغنائه فى الإسلام وشهرته بالثبات؛ فلذلك أمره بتكرير المبايعة‏.‏

وحديث مجاشع بن مسعود إنما كان بعد الفتح؛ لأن الرسول قال‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد ونية‏)‏ فكل من بايع الرسول قبل الفتح لزمه الجهاد أبدًا ما عاش إلا لعذر يجوز له به التخلف، وكذلك قالوا بحضرة رسول الله فى ارتجازهم يوم الخندق‏:‏ نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا وكذلك قال الله‏:‏ ‏(‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ‏(‏فأباح لهم أن يتخلف عن الغزو من ينفر إلى التفقه فى الدين ولم يبح لغير المتفقهين التخلف عن الغزو‏.‏

وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة كما قال‏:‏ ‏(‏جهاد ونية‏)‏ إلا أن ينزل عدو أو ضرورة فيلزم الجهاد كل أحد، والدليل على أن كل من بايع النبى صلى الله عليه وسلم قبل الفتح لا يجوز له التخلف عن الجهاد أبدًا قصة كعب بن مالك إذ تخلف عن تبوك مع صاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع أنهم لم يغزوا و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الله ورسوله والمؤمنون عليهم وأخرجوهم من بين أظهرهم ولم يسلموا عليهم ولم يكلموهم حتى بلغت منهم العقوبة مبلغها وعلم الله إنابتهم فتاب عليهم‏.‏

وأخو مجاشع بن مسعود أسمه‏:‏ مجالد ابن مسعود السلمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فما اجتمع اثنان على الشجرة، كانت رحمة‏)‏ يعنى‏:‏ جهلهم بها رحمة، خشية أن تعبد وتصير كالقبلة والمسجد، وبيعة الشجرة كانت بالمدينة فرضت الحرب على المسلمين، وقد كانت بيعة العقبة بمكة على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، على ما ذكر الله فى آخر سورة الممتحنة، وذكره عبادة بن الصامت فى حديثه، ولم يفرض فى هذه البيعة حرب إنما كانت بيعة النساء، وقد تقدم بيان ذلك فى ‏(‏كتاب الإيمان‏)‏ فى باب ‏(‏علامة الإيمان حب الأنصار‏)‏‏.‏

وأما قول عبد الله بن زيد فى زمن الحرة‏:‏ لا أبايع أحدًا على الموت بعد النبي‏.‏

وإنما قال ذلك؛ لأنه يرى القعود فى الفتن التى بين المسلمين وترك القتال مع إحدى الطائفتين، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من السلف على ما يأتى بيانه فى ‏(‏كتاب الفتنة‏)‏، فى باب قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم‏)‏‏.‏

باب‏:‏ عزم الإمام على الناس فيما يطيقون

فيه‏:‏ ابْن مسعود، قَالَ‏:‏ لَقَدْ سَأَلَنِى رجلٌ عَنْ أَمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ رَجُلا مُؤْدِيًا نَشِيطًا يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِى الْمَغَازِى، فَيَعْزِمُ عَلَيْنَا فِى أَشْيَاءَ لا نُحْصِيهَا‏؟‏ فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لَكَ إِلا أَنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَعَسَى أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَيْنَا فِى أَمْرٍ إِلا مَرَّةً حَتَّى نَفْعَلَهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا اتَّقَى اللَّهَ، وَإِذَا شَكَّ فِى نَفْسِهِ شَىْءٌ سَأَلَ رَجُلا فَشَفَاهُ مِنْهُ، وَأَوْشَكَ أَنْ لا تَجِدُوهُ، وَالَّذِى لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا أَذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا إِلا كَالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وَبَقِىَ كَدَرُهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث يدل على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله الإمام؛ ألا ترى تحرج السائل لعبد الله وتعرفه كيف موقع التخلف عن أمر السلطان من السنة، وتحرج عبد الله من أن يفتيه فى ذلك برخصة أو شدة، ولكن قد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فى الحديث الذى أمر فيه بعض قواده أن يجمعوا حطبًا ويوقدونها ففعلوا، فقال لهم‏:‏ ادخلوها‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إنما دخلنا فى الإسلام فرارًا من النار، فلم يزالوا يتمارون حتى خمدت النار وسكن غضبه فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال‏:‏ ‏(‏لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا؛ إنما الطاعة فى المعروف‏)‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ‏(‏يقضى على ذلك كله، وقد كان له أن يكلفها فوق وسعها فلم يفعل وتفضل فى أخذ العفو، هذا معنى الحديث‏.‏

وفيه تشكى عبد الله بن مسعود قلة العلماء وتغير الزمن عما كان عليه فى وقت رسول الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏مؤديًا‏)‏ معناه‏:‏ ذو أداة وسلاح تام العدة والشكل، عن أبى عبيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما غبر من الدنيا‏)‏ يعنى‏:‏ بقى، والغابر هو الباقى، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏إلا عجوزًا فى الغابرين ‏(‏يعنى‏:‏ ممن تخلف فلم تمض مع لوط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كالثغب‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ الثغب‏:‏ ما يستنقع فى صخرة، والجمع‏:‏ ثغبان‏.‏

باب

كَانَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ ابْن أَبِى أَوْفَى، إِنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى هذا الحديث والله أعلم مفهوم من قوله‏:‏ ‏(‏نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور‏)‏ فهو يستبشر بما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها، فكان إذا لم يقاتل بالغدو وهو الوقت الذى تهب فيه الرياح، أخر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر‏.‏

وقد بين هذا المعنى ما رواه قاسم بن أصبغ قال‏:‏ حدثنا الحسن بن سلام السواق، قال‏:‏ حدثنا عفان قال‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو عمران الجونى، عن علقمة بن عبد الله المزنى، عن معقل بن يسار قال‏:‏ قال النعمان بن مقرن‏:‏ ‏(‏شهدت القتال مع رسول الله فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب رياح النصر‏)‏ رواه البخارى فى باب الجزية، وقال‏:‏ ‏(‏انتظر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلوات‏)‏ وأوقات الصلوات أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء، والله أعلم‏.‏

باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ الإمَامَ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ جَابِر، غَزَوْتُ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَتَلاحَقَ بِىَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى نَاضِحٍ لَنَا قَدْ أَعْيَا، فَتَخَلَّفَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَزَجَرَهُ وَدَعَا لَهُ، فَمَا زَالَ بَيْنَ يَدَىِ الإبِلِ قُدَّامَهَا يَسِيرُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ تَرَى بَعِيرَكَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بِخَيْرٍ، أَصَابَتْهُ بَرَكَتُكَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى عَرُوسٌ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِى، فَتَقَدَّمْتُ النَّاسَ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه الآية أصل فى أن لا يبرح أحد عن السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم أو جهادهم عدوًا إلا بإذنه؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم ‏(‏فعلم أن الإمام ينظر فى أمر الذى استأذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن، وإن لم ير ذلك لم يأذن له؛ لأنه لو أبيح للناس تركه صلى الله عليه وسلم والانصراف عنه لدخل الخرم وانفض الجمع ويجد العدو غرة، فيثبون عليها وينتهزون الفرصة فى المسلمين‏.‏

وفيه أن من كان حديث عهد بعرس أو متعلق القلب بأهله وولده فلا بأس أن يستأذن فى التعجيل عند الغفلة إلى دار الإسلام كما فعل جابر، وفى هذا المعنى حديث لداود النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى غزوة خرج إليها‏:‏ ‏(‏لا يتبعنى من ملك بضع امرأة، ولم يبن بها، أو بنى دارًا ولم يسكنها‏)‏ فإنما أراد أن يخرج معه من لم يشغل نفسه بشيء من علائق الدنيا؛ ليجتهد فيما خرج له وتصدق نيته ويثبت فى القتال ولا يفر؛ فيدخل الجبن على غيره ممن لا يريد الفرار، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب فى ‏(‏كتاب البيوع‏)‏ وغيره إن شاء الله‏.‏

باب‏:‏ مُبَادَرةِ الإِمَامِ عِنْدَ الفَزَع

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏السرعة والركض عند الفزع‏)‏ وباب ‏(‏الخروج فى الفزع وحده‏)‏ وترجم له باب ‏(‏إذا فزعوا من الليل‏)‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏فزع أهل المدينة ليلا‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

وقد تقدم القول فى هذه الأبواب كلها، وجملة ذلك أن الإمام ليس له أن يسخو بنفسه وينبغى له أن يشح بنفسه؛ لأن فى ذلك نظمًا للمسلمين وجمعًا لكلمتهم إلا أن يكون من أهل الغناء الشديد والنكاية القوية كما كان صلى الله عليه وسلم قد علم أن الله يعصمه ويؤيده ولا يخزيه فله أن يأخذ بالشدة على نفسه؛ ليقوى قلوب المسلمين وليتأسوا به فيجتهدوا‏.‏

باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلانِ فِى السَّبِيلِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ، لابْنِ عُمَرَ‏:‏ أريد الْغَزْوَ، قَالَ‏:‏ إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أُعِينَكَ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِى، قُلْتُ‏:‏ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَىَّ، قَالَ‏:‏ إِنَّ غِنَاكَ لَكَ، وَإِنِّى أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِى فِى هَذَا الْوَجْهِ‏.‏

وقال عُمَرُ‏:‏ إِنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِيُجَاهِدُوا، ثُمَّ لا يُجَاهِدُونَ، فَمَنْ فَعَلَ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَالِهِ حَتَّى نَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ‏.‏

وقال طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ‏:‏ إِذَا دُفِعَ إِلَيْكَ شَىْءٌ تَخْرُجُ بِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ وَضَعْهُ عِنْدَ أَهْلِكَ‏.‏

فيه‏:‏ عُمَر، حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ، فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أشْتَرِيهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَشْتَرِهِ، وَلا تَعُدْ فِى صَدَقَتِكَ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ حَمُولَةً، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَيَشُقُّ عَلَىَّ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏باب الجعائل‏)‏، إنما أراد أن يخرج الرجل شيئًا من ماله يتطوع به فى سبيل الله كما فعل ابن عمر أو يعين به من لا مال له من الغابرين كالفرس الذى حمل عليه عمر فى سبيل الله فهذا حسن مرغب فيه، وليس من باب الجعائل التى كرهها العلماء، فقال مالك‏:‏ أكره أن يؤاجر الرجل نفسه أو فرسه فى سبيل الله، وكره أن يعطيه الوالى الجعل على أن يتقدم إلى الحصن‏.‏

ولا نكره الجعائل لأهل العطاء؛ لأن العطاء مأخوذ على هذا الوجه‏.‏

قال مالك‏:‏ لا بأس بالجعائل فى البعوث، لم يزل الناس يتجاعلون عندنا بالمدينة يجعل القاعد للخارج إذا كانوا من أهل ديوان واحد؛ لأن عليهم سد الثغور، وأصحاب أبى حنيفة يكرهون الجعائل ما كان بالمسلمين قوة أو فى بيت المال ما يفى بذلك، فإن لم تكن لهم قوة ولا مال فلا بأس أن يجهز بعضهم بعضًا على وجه المعونة لا على وجه البدل، وهذا الموضع ينبغى أن يكون وفاقًا لقول مالك‏.‏

وقد روى أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عمر قال‏:‏ كان القاعد يمنح الغازى، فأما أن يبيع الرجل غزوه فلا أدرى ما هو‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ لا يجوز أن يغزو بجعل يأخذه من رجل، وأرده إن غزا به، وإنما أجيزه من السلطان دون غيره؛ لأنه يغزو بشيء من حقه، واحتج بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فيقال له‏:‏ ليس كل من دخل فى شيء يتعين عليه بدخوله فيه يكون فى ابتدائه متعينًا عليه؛ ألا ترى أن المتطوع بالحج فى الابتداء ليس بواجب عليه، وإذا دخل فيه تعين فرض إتمامه عليه، وكذلك المجعول له لم يكن الجهاد متعين عليه فى الابتداء، فلما دخل فيه نائبًا عن غيره تعين عليه، إلا أنه قد سد فى جهاد العدو مسد الجاعل وناب منابه؛ فجاز له الجعل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإن المجاهد يستحق سهمًا من الغنيمة فلو وقع فعله عن غيره لم يصح ذلك، وإن وقع فعله عن نفسه لم يجب له جعل‏.‏

قيل‏:‏ وما يمنع من هذا‏؟‏ هو يستحق الجعل بالمعاونة ويحصل الجعل له؛ لأن المعنى المقصود من الجهاد قد حصل كما يحصل من الجاعل لو حضر، وقلنا إن المجعول له لم يتعين عليه الفرض فى الابتداء، وإنما جعل للجعل ونوى الجهاد فتعين عليه بدخوله، وقد أدى القاعد للخارج مائة دينار فى بعث فى أيام عمر، وكان مسروق يجعل عن نفسه إذا خرج البعث‏.‏

قال المهلب‏:‏ أما قول طاوس ومجاهد‏:‏ إذا دفع إليك شيء فى سبيل الله فاصنع به ما شئت‏.‏

فإنه يخرج من حديث عمر فى الفرس؛ لأنه وضع عنده للجهاد فأخذ ثمنه وانتفع به وإنما باعه الرجل؛ لأنه لم يكن حبيسًا، وإنما كان حملانًا للجهاد صدقة؛ لقول الرسول‏:‏ ‏(‏لا تعد فى صدقتك‏)‏‏.‏

وقد روى عن ابن عباس وابن الزبير خلاف قول طاوس ومجاهد، قال ابن عباس‏:‏ أنفقها فى الكراع والسلاح‏.‏

وقال ابن الزبير‏:‏ أنفقها فى سبيل الله‏.‏

وقال النخعى‏:‏ كانوا يعطون أحب إليهم من أن يأخذوا‏.‏

وسيأتى تمام القول فى قصة بيع الفرس فى باب ‏(‏إذا حمل على فرس فرآها تباع‏)‏ بعد هذا إن شاء الله وفى حديث عمر وأبى هريرة الحمل على الخيل فى سبيل الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتى ما تخلفت عن سرية‏)‏ يريد أنهم كانوا يقتدون به فيخرجون على العسر واليسر ولا يتخلفون عنه صلى الله عليه؛ لحرصهم على اتباعه ورغبتهم فى امتثال سيرته‏.‏

باب الأجِيرِ

وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ‏:‏ يُقْسَمُ لِلأجِيرِ مِنَ الْمَغْنَمِ‏.‏

وَأَخَذَ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ فَرَسًا عَلَى النِّصْفِ، فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَرَسِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ مِائَتَيْنِ، وَأَعْطَى صَاحِبَهُ مِائَتَيْنِ‏.‏

فيه‏:‏ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَحَمَلْتُ عَلَى بَكْرٍ، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَقَاتَلَ رَجُلا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

اختلف العلماء فى الأجير فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يسهم له‏.‏

وهو قول إسحاق‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يسهم له قاتل أو لم يقاتل‏.‏

وحجة مالك والكوفى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه ‏(‏فجعلها للغانمين، ومن لم يقاتل عليها فليس بغانم فلا يستحق شيئًا وروى عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ ‏(‏كنت تابعًا لطلحة بن عبيد الله وأنا غلام شاب، فأعطاه رسول الله سهم الفارس والراجل جميعًا‏)‏ واحتج الشافعى بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الغنيمة لمن حضر الوقعة‏)‏‏.‏

وهو قول أبى بكر وعمر وهو إجماع العلماء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما حديث يعلى فليس فيه أن النبى عليه السلام أسهم لأجير، وإنما حاول البخارى إثبات ذلك بالدليل؛ لأن فى الحديث جواز استئجار الحر فى الجهاد، وقد خاطب الله جماعة المؤمنين الأحرار بقوله‏:‏ ‏(‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ‏(‏فدخل الأجير فى هذا الخطاب؛ فوجب له سهم المجاهد الغانم لما تقدم من المخاطبة له، وأما فعل عطية بن قيس فلا يجوز عند مالك وأبى حنيفة والشافعى؛ لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب لادابة كراء مثلها، و ما أصاب الراكب فى المغنم فله، وأجاز الأوزاعى وأحمد بن حنبل أن يعطى فرسه على النصف فى الجهاد‏.‏

باب‏:‏ مَا قِيلَ فِى لِوَاء النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

فيه‏:‏ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَّ فَرَجَّلَ‏.‏

وفيه‏:‏ سَلَمَةَ، كَانَ عَلِىٌّ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى خَيْبَرَ، وَكَانَ بِهِ رَمَدٌ، فَلَحِقَ بِالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِى فَتَحَهَا فِى صَبَاحِهَا، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ- أَوْ لَيَأْخُذَنَّ- غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ‏)‏، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِىٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا‏:‏ هَذَا عَلِىٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَىَ يَدَيْهِ‏.‏

وفيه‏:‏ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، أن الْعَبَّاسَ، قَالَ لِلْزُّبَيْرِ‏:‏ هَاهُنَا أَمَرَكَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن لواء الإمام ينبغى أن يكون له صاحب معلوم، وإن كان من الأنصار فهو أولى؛ للاستنان بالنبى- صلى الله عليه وسلم- لأن قيس بن سعد كان من الأنصار، وهم الذين كانوا عاقدوا الرسول أن يقاتلوا الناس كافة حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

فهم أشد الناس فى قتال العدو بعد من هاجر مع النبى- عليه السلام- وبالأنصار نادى الرسول يوم حنين أول من نادى‏.‏

وفى حديث على أيضًا أن الراية لا يجب أن يحملها إلا من ولاه الإمام إياها ولا تكون فيمن أخذها إلا بولاية‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه الدلالة البينة على إمام المسلمين إذا وجد جيشًا أو سرية أن يؤمر عليهم أميرًا موثوقًا بنيته وبصيرته فى قتالهم ممن له بأس وعنده معرفة سياسة الجيش وتدبير الحرب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وجه إلى خيبر من أفضل أصحابه وأنفذهم بصيرة وغناء وأنكاهم للعدو، وجعل له لواء وراية يجتمع جيشه تحتها فيثبتوا لثباتها عند اللقاء ويرجعوا لرجعتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية‏)‏ فعرفها بالألف واللام يدل أنها كانت من سنته- صلى الله عليه وسلم- فى حروبه فينبغى أن يسار بسيرته فى ذلك‏.‏

وروى أن لواء النبى- صلى الله عليه وسلم- كان أبيض ورايته سوداء من مرط مرجل لعائشة‏.‏

وقال جابر‏:‏ دخل النبى مكة ولواؤه أبيض‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كان لرسول الله لواء أغبر‏.‏

وروى أن راية على يوم صفين كانت حمراء مكتوب فيها‏:‏ محمد رسول الله، وكانت له راية سوداء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث الزبير أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام؛ لأنها علامة على الإمام ومكانه؛ فلا ينبغى بأن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل أنها ولاية قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها خالد من غير إمرة ففتح له‏)‏‏.‏

فهذا نص فى ولايتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أراد الحج فرجل‏)‏‏.‏

يريد أنه رجل شعره؛ لطول بقائه شعثًا، والله أعلم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفى حديث على الخبر عن بعض أعلام النبوة، وذلك خبره عن الغيب الذى لا يكون مثله إلا بوحى من الله، وهو قوله‏:‏ ‏(‏يفتح الله على يديه‏)‏‏.‏

باب قَوْلِ الرسول‏:‏ ‏(‏نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ‏)‏

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ وَقَدْ ذَهَبَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَنْتَثِلُونَهَا‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ لما قرأ كِتَابِ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِى‏:‏ لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأصْفَرِ‏.‏

قال المهلب قوله‏:‏ ‏(‏نصرت بالرعب‏)‏‏.‏

هو شيء خصه الله وفضله به، لم يؤته أحدًا غيره ورأينا ذلك عيانًا، أخبرنا أبو محمد الأصيلى قال‏:‏ افتتحنا برشلونة مع ابن أبى عامر، ثم صح عندنا بعد ذلك عمن أتى من القسطنطينية أنه لما اتصل بأهلها افتتاحنا برشلونة بلغ بهم الرعب إلى أن غلقوا أبواب القسطنطينية ساعة بلوغهم الخبر بها نهارًا وصاروا على صورها وهى على أكثر من شهرين‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أتيت بمفاتيح خزائن الأرض‏)‏ فإن العرب كانت أقل الأمم أموالا فبشرهم أنها ستصير أموال كسرى وقيصر إليهم، وهم الذين يملكون الخزائن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وقد ذهب رسول الله وأنتم تنتثلونها‏)‏ يعنى‏:‏ أن رسول الله ذهب ولم ينل منها شيئًا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم اليوم تنتثلونها على حسب ما وعدكم‏.‏

وهذا الحديث فى معنى حديث مصعب بن عمير الذى مضى ولم يأخذ من الدنيا، زهدًا فكذلك رسول الله‏.‏

وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتى منه الآية فى معان مختلفة ولها تأويلات مختلفة، وكل يؤدى إلى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ والأخذ به، يدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما فرطنا فى الكتاب من شىء ‏(‏فهذا يدل أن القرآن جوامع، وبقوله‏:‏ ‏(‏خذ العفو واؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ‏(‏فلو أن هذا نزل فى تدبير الدنيا والآخرة لكفاها‏.‏

باب حَمْلِ الزَّادِ فِى الْغَزْوِ

وقوله‏:‏ ‏(‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، أنها صَنَعْتُ سُفْرَةَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ، حِينَ أَرَادَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ‏:‏ فَلَمْ نَجِدْ لِسُفْرَتِهِ وَلا لِسِقَايَتِهِ مَا نَرْبِطُهُمَا فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُ بِهِ إِلا نِطَاقِى، قَالَ‏:‏ فَشُقِّيهِ بِاثْنَيْنِ، وَارْبِطِيهِ بِوَاحِدٍ السِّقَاءَ وَبِالآخَرِ السُّفْرَةَ، فَفَعَلْتُ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ‏.‏

وفيه‏:‏ جَابِر، كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأضَاحِىِّ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وفيه‏:‏ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِىَ مِنْ خَيْبَرَ، وَهِىَ أَدْنَى خَيْبَرَ، فَصَلَّوُا الْعَصْرَ، فَدَعَا الرسول صلى الله عليه وسلم بِالأطْعِمَةِ، فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَا، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضْمَضَ، ‏[‏وَمَضْمَضْنَا‏]‏، وَصَلَّيْنَا‏.‏

وفيه‏:‏ سَلَمَةَ، خَف أَزْوَادُ النَّاسِ وَأَمْلَقُوا، فَأَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم ‏[‏فِى نَحْرِ إِبِلِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ‏]‏ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ‏:‏ مَا بَقَاؤُكُمْ بَعْدَ إِبِلِكُمْ‏؟‏ فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَادِ فِى النَّاسِ يَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَدَعَا وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأَوْعِيَتِهِمْ‏)‏، فَاحْتَثَى النَّاسُ حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أخذ الزاد وتحمل ثقله فى الأسفار البعيدة لفعل خير البرية وأكرمها على الله وعلى عباده وشفيع الأمم كلها يوم القيامة، وهذا يدفع ما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرقة على الناس باسم التوكل الذى المتزودون أولى به منهم‏.‏

وقوله‏:‏ إن أكرم الأمم قد أملقوا بالصهباء فجمع رسول الله بقايا أزوادهم وجعلهم فيه شركاء سواء، ليس من كان له بقية منها بأولى ممن ليس له شيء‏.‏

ففى هذا من الفقه أنه إذا أصاب الناس مخمصة ومجاعة أن يأمر الإمام الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، على وجه النظر لهم بثمن وبغير ثمن، وقد استدل بعض الفقهاء من هذا الحديث أنه جائز للإمام عند قلة الطعام أن يأمر من عنده طعام يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع، ويجبره على ذلك لما فيه من صلاح الناس، ولم ير ذلك مالك وقال‏:‏ لا يجبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء‏.‏

وفيه من الفقه أن للإمام أن يحبس الناس فى الغزو ويصبرهم على الجوع وعلى غير زاد، ويعللهم ما أمكن حتى يتم قصده ونصبه الضلعين إنما فعله اعتبارًا لخلق الله وتعجبًا لعظيم قدرته؛ ليخبر بذلك المخبر فيتذكر بذلك السامع‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏(‏ما بقاؤكم بعد إبلكم‏)‏ فيه من الفقه اعتراض الوزير رأى الأمير وإن لم يشاوره الأمير؛ لأن الخطة تعطيه ذلك، وقد جعل ذلك أبو بكر الصديق فى سلب قتادة‏.‏

وفيه أن الظهر عليه مدار المسافر لاسيما بالحجاز الذى الراجل فيه هالك فى أغلب أحواله إن لم يأو إلى ظهر أو صاحب ظهر؛ ليحمل له بعض مؤنته؛ ألا ترى قول عمر‏:‏ ‏(‏ما بقاؤكم بعد إبلكم‏)‏ يعنى‏:‏ أن بقاءهم يسير؛ لغلبة الهلكة على الراجل‏.‏

وهذا القول من عمر أصل نهى الرسول عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر استبقاء لظهورها ليحمل المسلمين عليها وتحمل أزوادهم، وفى قوله‏:‏ ‏(‏ما بقاؤكم بعد إبلكم‏)‏ دليل على أن الأرض تقطع مسافتها وليست تطوى المسافات كما يدعى بعض البطالين أنه يحج من قاصية من قواصى الأرض فى ثلاثة أيام أو أربعة‏.‏

وهذا منتقض من وجوه، وإنما قال النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن الأرض تطوى بالليل‏)‏‏.‏

أى أنها تقرب مسافاتها بتيسير المشى وقطع ما لا يرى منها، فإذا أصبح وعرف مكانه حمد سراه ‏(‏عند الصباح يحمد القوم السرى‏)‏‏.‏

وفيه علامة من علامات النبوة فى بركة الطعام القليل حتى تزودوا منه أجمعون، فكيف بمن يدعى من البطالين قلب الأعيان بعد رسول الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ‏(‏فإن جماعة من المفسرين قالوا‏:‏ نزلت فى ناس من أهل اليمن كانوا يخرجون إلى مكة بغير زاد، وقد تقدم ذلك فى ‏(‏كتاب الحج‏)‏‏.‏

باب‏:‏ حمل الزاد على الرقاب

فيه‏:‏ جَابِر، خَرَجْنَا، وَنَحْنُ ثَلاثُ مِائَةٍ، نَحْمِلُ زَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا، فَفَنِىَ زَادُنَا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَأْكُلُ فِى كُلِّ يَوْمٍ تَمْرَةً، قَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْنَ كَانَتِ التَّمْرَةُ تَقَعُ مِنَ الرَّجُلِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَقَدْنَاهَا، حَتَّى أَتَيْنَا الْبَحْرَ، فَإِذَا حُوتٌ قَدْ قَذَفَهُ الْبَحْرُ، يعنى السمك، فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا أَحْبَبْنَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذه التمرة إنما كانت تغنى عنهم ببركة النبى وبركة الجهاد معه، وإنما بارك الله لهم فى التمرة حتى وجدوا لها مسدا من الجوعة متبينة فى أجسامهم وصبرهم حين فقدوها على الجوع؛ لئلا تخرق العادة عن رتبتها، ولا تخرج الأمور على معهودها المتسق فى حكمته مع أنه قدير أن يخلق لهم طعامًا ويجعل لهم من الحجارة خبزًا ومن الجلاميد فاكهة، لكنه مع قدرته على ذلك لم يخرجهم عن العادة، وفيه الترجمة‏.‏

باب‏:‏ إِرْدَافِ المَرْأَةِ خَلْفَ أَخِيهَا

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قلت‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ أَصْحَابُكَ بِأَجْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى الْحَجِّ‏؟‏ فَقَالَ لَهَا‏:‏ ‏(‏اذْهَبِى، وَلْيُرْدِفْكِ عَبْدُالرَّحْمَنِ‏)‏، فَأَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز ركوب رجلين الدابة وهذا إنما هو محمول على طاقة الدابة، فإذا قصرت قوتها عن شيء لم يجز حمله عليها إذا كان مسرفًا فى المشقة عليها، وأما المشقة اليسيرة التى تستطيع بمثلها، فللرجل أن يحمل دابته ومملوكه ذلك ما لم يكن إسرافًا‏.‏

وركوب المرأة مع الرجل على الدابة وإن كانت ذات محرم منه، فإن السنة فى ذلك والأدب أن تكون خلفه على الدابة، ولا يحملها أمامه خوف الفتنة وكذلك فعل موسى بابنة شعيب حين دلته على الطريق وكانت الريح تضرب ثيابها فقال لها‏:‏ كونى خلفى وأشيرى لى الطريق‏.‏

ولذلك قالت لأبيها‏:‏ ‏{‏إن خير من استأجرت القوى الأمين‏}‏‏.‏

باب الارْتِدَافِ فِى الْغَزْوِ وَالْحَجِّ

فيه‏:‏ أَنَس، كُنْتُ رَدِيفَ أَبِى طَلْحَةَ، وَإِنَّهُمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ‏.‏

وقد تقدم ذكر الارتداف فى ‏(‏كتاب الحج‏)‏ ومعناه‏:‏ التعاون على أفعال البر فى الغزو والحج، وكل سبيل لله تعالى وأن ذلك من السنة ومن فعل السلف الصالح وهو من باب التواضع‏.‏

باب الرِّدْفِ عَلَى الْحِمَارِ

فيه‏:‏ أُسَامَة، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ‏.‏

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا التواضع من وجوه‏:‏ أحدها‏:‏ ركوب الإمام الحمار، ثم ركوبه على قطيفة، ثم مردفًا غلامًا‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فيه البيان على أنه صلى الله عليه وسلم مع محله من الله وجلالة منزلته لم يكن يرفع نفسه عن أن يحمل ردفًا معه على دابته، ولكنه كان يردف لتتأسى به فى ذلك أمته، فلا يأنفوا مما لم يأنف منه ولا يستنكفوا مما لم يستنكف منه‏.‏

باب مَنْ أَخَذَ بِالرِّكَابِ وَنَحْوِهِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ الأخذ بالركاب من الفضائل، وهى صدقة من الآخذ بالركاب على الراكب؛ لأنه معروف فإن قيل‏:‏ أين موضع الترجمة من الحديث‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ هو فى قوله‏:‏ ‏(‏يعين الرجل على دابته‏)‏ فدخل فيه الأخذ بالركاب وغيره، وقد روى عن ابن عباس‏:‏ أنه اخذ بركاب زيد بن ثابت قال له‏:‏ لا تفعل يا ابن عم رسول الله فقال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا‏.‏

فأخذ زيد يد ابن عباس فقبلها فقال له‏:‏ لا تفعل فقال‏:‏ هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله‏.‏

باب السَّفَرِ بِالْمَصَاحِفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ

وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

وَقَدْ سَافَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فِى أَرْضِ الْعَدُوِّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ‏.‏

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ‏.‏

هذا الباب وقع فيه غلط من الناسخ؛ لأن قوله‏:‏ وكذلك يروى عن محمد بن بشر، ولم يتقدم فى هذا الباب ذكر شيء يشار إليه، فلذلك لا معنى له، والصواب فيه أنه يكون حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر فى أول الباب، ثم يقع بعده وكذلك يروى عن محمد ابن بشر، وتابعه ابن إسحاق، وإنما احتاج إلى ذكر هذه المتابعة؛ لأن بعض الناس زاد فى الحديث‏:‏ مخافة أن يناله العدو‏.‏

وجعله من لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم- ولم تصح هذه الزيادة عند مالك ولا عند البخارى، وإنما هى من قول مالك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفائدة قوله‏:‏ ‏(‏وقد سافر النبى وأصحابه فى أرض العدو وهم يعلمون القرآن‏)‏ فإنما أراد أن يبين أن نهيه- عليه السلام- عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ليس على العموم، ولا على كل الأحوال، وإنما هو فى العساكر والسرايا التى ليست مأمونة، وأما إذا كان فى العساكر العظام فيجوز حمل القرآن إلى أرض العدو، ولأن أصحاب رسول الله كان يعلم بعضهم بعضًا القرآن؛ لأنهم لم يكونوا مستظهرين له‏.‏

وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلمون منها؛ فاستدل البخارى أنهم فى تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز لهم تعلمهم فى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو بغير كتاب وبكتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرًا مأمونًا، وهذا قول أبى حنيفة‏.‏

ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير فى النهى عن ذلك، ومعنى النهى عن السفر به إلى أرض العدو خشية أن يناله العدو ولا يكرموه، وقد أخبر الله أنه‏)‏ فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة ‏(‏وهم الملائكة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون ‏(‏وهم الملائكة أيضًا ففهم من هذا الندب إلى أن لا يمسه عندنا إلا طاهر، وأن نهيه صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى أرض العدو ليس على وجه التحريم والفرض وإنما هو على معنى الندب للإكرام للقرآن؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى قيصر بآية إلى آخرها وهو يعلم أنهم نجس وعلم أنهم يقرءونها، فصح أن نهيه عن ذلك فى حال دون حال وفى العساكر التى ليست مأمونة‏.‏